فصل: باب: أخذ الرجل حقه ممن يمنعه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: القافة ودعوى الولد:

12304- بيّن الشافعي رضي الله عنه فيما قدمه من الأبواب حكمَ الدعاوى في الأموال، وبين في هذا الباب حكمَ الدعاوى في الأنساب.
فإذا اشترك رجلان في طهر امرأة بوطء شبهة أو بوطء حلال ووطء شبهة، فأتت بولد يحتمل أن يكون لكل واحد منهما وادعياه، أو ادعيا لقيطاً مجهول النسب، فلا سبيل إلى إلحاقه بهما جميعاً، ولا يتصور أن يكون للمولود أبوان، ولكن نُري الولدَ القائفَ، فإن ألحقه بأحدهما، لحقه، على ما سنذكر تفصيل ذلك، إن شاء الله.
وترتيب الباب أن نذكر الطرق التي يثبت بها الاشتراك والتساوي في الدِّعوة، ثم نذكر من هو من أهل الدِّعوة، ثم نذكر القائف وما يرعى فيه، وحقيقة القيافة، ثم نختتم الباب بما إذا لم نجد القائف.
12305- فأما الكلام في الفصل الأول، فقد قال الأئمة: إذا وطىء الرجل جاريته واعترف بالوطء، ثم وطئها غيره بشبهة في ذلك الطهر بعينه، فأتت بولد لزمان يمكن أن يكون من كل واحد منهما: السيد والواطىء بالشبهة، فنري الولدَ القائفَ.
12306- ولو وطىء الجاريةَ مالكُها، أو مالكُ بعضها، أو واطىءٌ بشبهة، ثم حاضت، فلما انقضت الحيضة، وطئها ثانٍ، وجاءت بولد لزمان يمكن أن يكون لكل واحد منهما من حيث الزمان، فالولد ملتحق بالثاني؛ فإنّ وطء الأول استعقب استبراءً بحيضة، والولد في ملك اليمين لا يلحق بمجرد الإمكان؛ إذ السيد لو وطىء جارية نفسه، وأقر بوطئها، ثم ادعى أنه استبرأها بعد الوطء، فإذا أتت بولد، لم يلحقه ما لم يستلحقه، فالولد إذاً في المسألة التي نحن فيها ملحق بالثاني منتفٍ عن الأول، سواء ادعاه الأول أو لم يدعه.
وهذا فيه أدنى نظر، إذا كان يدعيه الأول؛ فإن السيد إذا وطىء أمته، ثم حاضت، وأتت بولد، لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء المتقدم على الحيضة-بتقدير جريان الدم في زمن الحمل- فيجب أن يلحق الولدُ السيدَ، وإنما يؤثر طريان الحيضة في أن الولد لا يلحقه من غير استلحاق، فإذا فرضنا تخلل الحيضة بين الوطء الأول وبين الوطء من الثاني، ثم استلحق الأول وادعى، واستلحق الثاني، فلا يبعد أن يقال: نري الولدَ القائفَ، وظاهر كلام الأئمة يختص بالثاني من غير إلحاق قائف، وفي المسألة احتمال.
ولا خلاف أن من أبان امرأته، فنكحت، وأتت بعد النكاح بولد لزمان يحتمل أن يكون من الثاني، ويحتمل أن يكون من الزوج الأول، فهو ملتحق بالزوج الثاني، من غير دِعوةٍ، منتفٍ عن الأول، وإن ادعى؛ فإن الفراش الثاني قاطع لأثر الفراش الأول فيما ذكرناه.
12307- ولو وطىء رجل امرأةً حرة بشبهة، من غير نكاح صحيح ولا فاسد، ولكن غلط إليها، وهي خلية عن الزوج، فحاضت، ثم وطئها رجل آخر بالشبهة بعد حيضة، فوقع الوطء الثاني في طهرٍ ثانٍ، وأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون من كل واحد منهما جميعاً، قال الأصحاب: هو ملتحق بالثاني منتفٍ عن الأول، كما ذكرناه في ملك اليمين سواء؛ فإنّ وطء الغلط من غير نكاح في الحرة بمثابة وطء المملوكة فيما قدمناه في ملك اليمين. هكذا ذكر شيخنا، وادعى الوفاق فيه. وليس ما ذكره خالياً عن احتمال؛ فإن وطء الشبهة في اقتضاء العدة التامة-والموطوءة حرة- بمثابة الوطء الحلال في النكاح، والله أعلم.
12308- ولو كانت المرأة في حبالة زوجية صحيحة، فوطئها الزوج، وحاضت، ثم وطئها واطىء بشبهة، أو لم يثبت من الزوج حقيقة وطء، بل وجد إمكان وطء، ففي هذه الصورة إذا أتت بولد-يمكن أن يكون من كل واحد منهما- فنُري الولدَ القائفَ وفاقاً. ولا معتبر بما تخلل من الاستبراء بالحيضة؛ لأنا نعتبر في إلحاق النسب بالزوج في النكاح مجردَ الإمكان، والحيضة لا تقطع الإمكان أصلاً. فلا أثر لها في حق الزوج.
ولو وطىء الزوجة واطىء بشبهة أولاً، وحاضت بعد وطئه إياها، ثم أتت بولد لزمان يحتمل أن يكون منهما، فيكون ملحقاً بالزوج منفياً عن الواطىء بالشبهة، إن صح ما قدمناه من تأثير الحيض في وطء الشبهة، فإنا إن اقتصرنا على الإمكان في حق الزوج، فلسنا نقتصر على الطريقة التي مهدناها في حق الواطىء بالشبهة.
12309- ولو نكح الرجل امرأةً نكاحاً فاسداً، فوطئها، وحاضت، ووطئها آخر بشبهة غالطاً، والزمان محتمل، ذكر الإمام في هذه المسألة وجهين:
أحدهما: أن حكم النكاح الفاسد حكم النكاح الصحيح، والولد ملحق فيه بالإمكان، كما يلحق في النكاح الصحيح؛ فعلى هذا لو تخللت حيضة، وأتت بولد، فنريه القائفَ بينهما. ولو لم نتحقق من الناكح وطئاً، فنكتفي بإمكان الوطءِ في جانبه. ولو أنكر الناكح على الفساد الوطءَ، فلا أثر لإنكاره على هذا الوجه.
والوجه الثاني- أن نكاح الشبهة في حق الناكح لا يُثبت نسباً بالإمكان المجرد؛ فعلى هذا سبيل الناكح كسبيل الواطىء بالشبهة غلطاً، ولابد من تصوير الوطء، والتفصيل في تخلل الحيض كالتفصيل في وطأة الغالط.
12310- فانتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثُ مراتب: إحداها- وطأة الغالط. وقد ألحقها شيخي وطائفة من الأئمة بالوطء في ملك اليمين، وأثبتوا لتخلل الحيض أثراً، ولا شك أن الاعتراف بالوطء لابد منه.
وأما المرتبة الثانية- فالنكاح الصحيحُ، والإمكانُ المجرد كافٍ في حق الزوج، ولا أثر في حقه لتخلل الحيضة.
وأما إذا جرى نكاح على الفساد، ففيه الخلاف. من أصحابنا من ألحقه في النسب وأمرِه بالنكاح الصحيح، ومنهم من شرط فيه جريان الوطء، ثم رده في الترتيب إلى وطأة الغالط.
وهذه المراتب مسبوقة بما ذكرناه في الوطء في ملك اليمين مع تصور الغلط، ولا خلاف في إلحاق الولد بالزوج الثاني، وقَطْعه عن الأول إذا أمكن أن يكون من الثاني، وإن احتمل أن يكون من الأول، سواء ادعاه الأول، أو لم يدعه، وليت شعري ماذا نقول إذا نفاه الثاني باللعان، واستلحقه الأول؟ فقد انقطع في ظاهر الأمر حكم اللحوق في النكاح الثاني، والاحتمال قائم في حق الأول، فالذي يقتضيه الرأي عندي أنه لا يلتحق بالأول، وإن كان يدعيه؛ لأن الملاعن لو استلحق المنتفي بعد اللعان، لحقه، وفي إلحاقنا إياه بالأول قطعُ هذا المعنى، وهذا فيه إذا كان الأول يستلحقه بحكم الإمكان السابق المستند إلى النكاح الأول.
فأما إذا كان يدعي وطء شبهة، فيظهر من هذا أصل آخر، وهو أن من ادعى وطء شبهة في النكاح، وصاحب النكاح ينكره، وأخذ مدعي الوطء في الدِّعوة وإسنادها إلى وطٍ يدعيه، فكيف السبيل فيه؟ إن قلنا: الرجوع إلى قول صاحب الدِّعوة، فهذا يخرم نسب الفراش، ويجر خبالاً عظيماً على الأنساب، وإن لم نقل ذلك، أَحْوجنا الواطىءَ إلى إثبات الوطء بالبينة؛ فإنّ اعتراف الزوج به لا يؤثر فيما نراه، ولا أثر لاعترافها بالوطء. والمرعيّ حق الولد. وهذا أمر مشتبه. فليتأمله الناظر.
وعندي أن الذي أجراه الأصحاب من غير تعرض لما ذكرناه في وطء ثبت بطريق ثبوته، وشهدت البينة عليه، وإنعام النظر في هذه المسألة موكول إلى الفقيه الموثوق بنظره.
ولو تداعى رجلان نسب لقيطٍ مجهولِ النسب، فهذا من صور القيافة، والغالب الذي لا يُتمارى فيه في تصرف القائف هذا.
وقد نجز مقدار مرادنا في هذا الفصل، ولا شك أني ذكرت في كتاب اللعان أطرافاً من هذا، ولا مَعاب في الإعادة إذا دعت إليها حاجة.
12311- فأما القول فيمن هو من أهل الاستلحاق والدِّعوة- وقد مضى ذلك في كتاب اللعان، فالمسلم والكافر سيّان في الاستلحاق، والمتبع في الباب الإمكانُ في المنبوذ المجهول. وإن وقع الفرض في وطء الشبهة، فلا فرق بين الكافر والمسلم.
وأما المعتَق وعليه الولاء إذا استلحق مولوداً، والعبد الرقيق إذا استلحق، فالذي تحصل لنا من قول أئمة المذهب ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنه لا دِعوة لواحد منهما؛ لأن في إلحاق النسب قطع الإرث بالولاء، فلا يقبل، والحالة هذه.
والثاني-وهو القياس- أن النسب يلحق بهما إذا استلحقاه.
والوجه الثالث: الفرق بين المعتَق والرقيق، فالمعتَق لا يلحقه؛ لأنه يهجم بالاستلحاق على الولاء الكائن، والولاء موهوم في الرقيق، والأصل اطراد الرق، فكان الرقيق أولى بالاستلحاق-على هذا الترتيب في الوجه الثالث: من المعتَق.
وهذا الذي ذكرناه في الدِّعوة المجردة.
فأما إذا فرض نكاح من معتَق أو رقيق، فالنسب يلحقهما بإجماع الأمة، كما يلحق الحر.
وإذا صح منهما وطء شبهة، فيجب أن يلحقهما النسب على القياس المقدم في وطأة الغالط الحر.
12312- وإذا ادعت امرأة مولوداً مجهولاً، وهي خلية، ففي الولادة بالدّعوة خلافٌ، قدمته في اللعان. من أصحابنا من لم يثبت لها دِعوة، لأن الولادة مما يمكن إثباتُه بالبينة، وإنما يلحق النسب الرجل بالدِّعوة المجردة لامتناع إقامة البينة على سبب النسب في حقه.
ومن أصحابنا من أثبت للمرأة الدِّعوة، ولا خلاف أنها إذا كانت ذات زوج، فادعت ولادةَ مولود، وأنكر الزوج ولادتها، وقال: هذا استعرتيه أو لقطتيه، وما ولدتيه، فالقول قول الزوج. وهذا الأصل معروف مذكور في اللعان، ولكن إذا أنكر الزوج الولادة، ولم تُقم المرأة بينة، فهل يلحقها الولد؟ فيه خلاف مرتب على الخلية.
وينتظم من الخلية وذات الزوج ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الولد لا يلحقها إذا كانت ذات زوج، ويلحقها إذا كانت خلية، وقد انتهى القول في ذلك.
12313- فأما الكلام في القائف، فهذا مشهور من بني مدلج وحديث مُجَزِّز المُدْلجي في أسامة وزيد معروف.
ثم قال العراقيون: ليست القيافة محكوماً بها على كل من ينتسب إلى هذه القبيلة، بل يجوز أن يخلوَ مُدلجي عن القيافة؛ فإن ذلك إن كان علماً يُتلقف، فيختص به حملتُه، وإن كان أمراً مستفاداً من إلهام، فلا يجب إثباته على العموم، وإذا قال المدلجي: أنا عارف بالقيافة، فلا سبيل إلى تصديقه.
12314- ولا وجه إلا ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنه قال: لا يقبل قول القائف إلا بعد أن يجرّب ويختبر، وسبيله أن نريَه ولداً بين نسوة، ليست واحدة منهن أمه، فإذا لم يلحق الولد بواحدة أريناه مع نسوة فيهن أم المولود، فإذا ألحقه بأمه، عرفنا به معرفتَه. ثم قال الشيخ أبو حامد: لا نكتفي أن نجرّبه مرة واحدة، بل نجرّب ثلاث مرات، ورأى ذلك حتماً، ولم يجعله احتياطاً.
ولو أريناه المولود بين نسوة ليس فيهن أمه، فلم يلحق، فأريناه في نسوة ليس فيهن أمه أيضاً فلم يُلحق، وكررنا هذا النوع عليه، فاستدّ في عدم الإلحاق، ثم ألحق بالأم، فلست أدري أن ما تقدم من درك استداده هل يكتفى به، أم لابد من تكرر الإلحاق منه؟
والذي يجب أن يكون عقَد المذهب ومعتبرَه أن يَظهرَ حذقُه وتهدّيه، ويبعد حمل ما صدر منه على وفاق، ويجب أن نتناهى في الاحتياط؛ حتى لا يكون القائف مطّلعاً من قبل بعِيان أو تسامع.
وما ذكرناه من التجربة المحتومة مخصوصة بالنسوة؛ فإن الولاد فيهن مستيقن، ولست أدري هل يقع الاكتفاء بأن نريَه ولداً مشهور النسب بين رجال ليس فيهم أبوه؟ والأظهر تخصيص التجربة بالنساء كما ذكرناه.
ثم إذا تبيّنا معرفته، فلا شك أن نشترط عقله وبلوغه وورعه.
والقائف الواحد كافٍ، والشاهد فيه حديث مجزِّز المدلجي، وفي اشتراط الحرية مذهبان: أصحهما- الاشتراط، وتنزيلُ القائف منزلة الحاكم، وليت شعري هل يُقبل إلحاق المرأة القائفة؟ إن لم نشترط الحرية.
12315- وقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن القيافة هل تختص ببني مدلج أو تتعداهم؟ فمنهم من زعم أنه مختص بهم، وهؤلاء اعتمدوا الاقتصار على مورد الشرع؛ فإن القيافة احتكام على أمرِ مُخطر، ومعوّلها التخمين، وكم من حاذق منهم يغلط، فالوجه ما ذكرناه.
وما زال أهل هذه القبيلة يراجَعون، وعصر الصحابة يطفح بذوي الفطن، فالوجه الاختصار عليهم.
ومن أصحابنا من لم يخصص ذلك بهم، واعتبر هذا المستدرك بكل ما يستدرك فيما يُعلم ويُظن، وعبّر الأئمة عن هذا فقالوا: القيافة خاصَّة فيهم، أم هي علم يتعلم ثم يُحْكَم بطول الدُّربة، كالعلوم التعليمية والتجريبية؟ ثم تصرف العراقيون، فقالوا: لا شك أنهم يعتمدون أشباهاً جلية وخفية: الجليةُ كالخلق والصور، والخفية كالشمائل التي لا تنتظم فيها عبارة، ثم قالوا: إذا كانت القيافة علماً من العلوم مستنداً إلى أعلام، فلو ظهر للذي يُلحق بالشبه تشابه في الخلق الجلية مع شخصٍ، ومشابهة في الشمائل الخفية مع شخص، فيعتمد ظواهر الخلق، أو الشمائل الخفية؟ فعلى وجهين. فأما من يعتمد المسلك الجلي، فتوجيهه بين، ومن يعتمد الشمائل فمعتمده أن الخلق لو كان عليها معول، لعم تشبه الولد بالوالد في الصورة، وليس كذلك، فأما الشمائل فلابد من التشابه فيها في حق من يتفطن لها غالباً. والله أعلم.
ولا ينبغي عندنا أن ينتهي الفقيه إلى أن يتصرف في علم القيافة.
ومما نلحقه بذلك، أنا إذا جرّبنا القائف في مولود، فأصبناه مصيباً فيه، فلا نكرر عليه التجربة في كل مولود، وهذا كحكمنا بكون الكلب معلماً، إذا ثبت، لم نحتج إلى إعادة التجربة كل مرة، بل هو على حكم التعليم إلى أن يتبين خلافه.
هذا منتهى ما أردناه في صفات القائف.
12316- فإذا وجدنا قائفاً على الشرط، فلا مَعْدل عنه. وإن لم نجد قائفاً، أو وجدناه فتحيرّ، أو جربناه فغلط، أو كان القائف غائباً-على ما سأصف الغيبة- فيقف الأمر، ونتوقف إلى أن يبلغ الطفل ونأمره بالانتساب.
ثم الذي فهمته من كلام الأصحاب أن هذا المولود يعتمد ميلَ نفسه وحنينها، معتقداً أن النفوس مجبولة على الميل إلى الوالدين، وليس له أن يختار واحداً عن وفاق، هذا ما وجدته. حتى قال شيخي: لو امتنع بعد البلوغ عن الاختيار، حبسه القاضي.
ولست أرى الأمر كذلك، بل هذا مناقضٌ لقولنا: لا يختار تشهياً؛ فإن الإجبار يليق بهذا الفن من الاختيار، وهذا كحبسنا من أسلم على عشر نسوة ليختار أربعاً منهن، ولا يمكن أن نحكم على النفوس بأنها تميل إلى آبائها ميلاً جلياً لابد منه؛ حتى لا يخلو شخص عن وجدانه ودركه من نفسه، ولست أشك أن هذا لا يعم النفوس مع الجهل والتباس الحال.
فأما إذا ألف الرجل أباه وتربّى في حجره، فذاك إلف وتقليد، وإنّا في التعويل على ما يندر من الميل على تردد، ولا متبع فيه إلا الشرع والتوقيف.
ثم إذا اختار المولود أحدهما، وقع الحكم به، وأرى له محملاً جلياً في قواعد الشريعة، وهو تقارّ المستلحِق والمستلحَق على النسب، ولو استلحق الرجل نسب بالغٍ، فلا يلحقه نسبه ما لم يوافقه، هذا من ذلك الفن، يل هو هو بعينه. وما قدمناه من النزوع إلى نوازع النفس كلام فيما يعتمده المختار، وإلا فالحكم الظاهر المنوط بالاختيار متلقى مما ذكرته.
ولو بلغ الصبي مبلغ التمييز، ولم ينته إلى مظنة التكليف فهل يختار؟ وهل لاختياره حكم؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يخيّر ليختار، إذا لم يكن قائف، كما يُخَيَّر المولودُ المميز بين أبويه في الحضانة. والوجه الثاني- أنا نصبر إلى أن يبلغ؛ فإن أمر النسب خطير، وليس كالحضانة؛ فإنها مطلوبة في الصغر، ولو أخر أمرها، فيقع الكلام بعد انقضائها؛ على أنا اعتمدنا فيها الخبر والأثر.
12317- وقد أجرينا ذكر غيبة القائف، والذي يجمب الرجوع إليه عندنا في هذا أن يقال: الاختيار في حكم البدل عن القيافة، فنعتبر في غيبة القائف ما نعتبره في غيبة شهود الأصل عند استشهاد الفروع.
12318- ووراء ذلك غائلة ننبه عليها الآن، ونقدم أصلاً مقصوداً، فنقول: الولد الذي ألحقه فراش النكاح لا يؤثر فيه قيافةٌ، ولا انتسابٌ يخالف حكم الفراش، بل لا ينتفي ولد ألحقه الفراش إلا باللعان.
ولو صادفنا صبياً صغيراً في يد إنسان، وكان يستلحقه، ولا نعرف فراشاً نُسند الولدَ إليه، فالنسب يلحق بظاهر اليد مع الانتساب، حتى لو جاء إنسان واستلحقه، فلا حكم لاستلحاقه. ولو دعانا إلى الاحتكام إلى القائف، لم نجبه، وهذا رأيته متفقاً عليه بين الأصحاب.
ولو بلغ الطفل فانتفى ممن كان يستلحقه وهو تحت يده في صباه، فهل يقبل انتفاؤه عنه؟ فعلى وجهين مشهورين بناهما الأصحاب على ما إذا حكمنا لطفل بالإسلام تبعاً، فبلغ وأعرب عن نفسه بالكفر، فهو مرتد أو كافر أصلي؟ فعلى قولين، ووجه البناء لائح.
وذكرنا في ادعاء الحرية بعد البلوغ مثلَ هذا الخلاف.
ثم ذكر الأصحاب في هذا المنتهى مسألة، فنذكرها، ثم نعود إلى ما نبهنا عليه، قالوا: إذا كان في يده صبي، وهو يدعي نسبه، ويزعم أن زوجته أتت به، والزوجة تنكر ولادته، فالنسب يلحق وإن أنكرت، فلو جاء خارجي وادعى نسبه، وزوجة الخارجي تزعم أنها ولدته على فراش الخارجي، أما الأبوة، فثابتةٌ لمن الطفل في يده. واختلف أصحابنا وراء ذلك في الأمّ: فقال قائلون: هو ابن صاحب اليد وابن زوجة الخارجي، فلا منافاة، ولعله وطئها بشبهة، وهذا إذا جعلنا للمرأة دِعْوة.
ومن أصحابنا من قال: هو ملحق بالذي في يده، وبزوجته وإن أنكرته.
ومن أصحابنا من قال: الأبوة تثبت لصاحب اليد، ولا قائف في ذلك، ونُري الولدَ القائفَ بين زوجته وزوجة الخارجي.
12319- ونحن نعود بعد ذلك إلى ما أردناه، فنقول: إذا وقفنا أمرَ المولود الذي تداعاه رجلان، لما لم نجد القائف، وانتظرنا بلوغ المولود واختيارَه، فلو بلغ، فحضر قائف قبل اختياره، فالرجوع إلى اختياره أم إلى إلحاق القائف؟ أولاً- لا خلاف أنه لو لم يختر، ألحقه القائف، وإذا اختار ووافق اختيارُه إلحاقَ القائف، فلا إشكال.
وإن اختار أحدَهما وألحقه القائف بالثاني، فهذا موضع النظر؛ من جهة أن القيافة تليق بحالة الصغر؛ إذ لو ادعى رجل نسب بالغ، وهو ينكر، فاستشهد المدعي بقائف، فلا يجوز أن يكون قولُ القائف حجةً في هذا المقام، والمستلحَق المدعى بالغ مستقل، وادعاء الرجل نسبه كادعائه مالَه، ولكن إنما ترددنا في المسألة الأولى؛ لأن الولد في حكم النسب كابنٍ في أيديهما، وتثبت عُلقة النسب، بل حقيقة النسب من أحدهما؛ فإن هذا إذا بلغ لابد وأن يختار أحدهما، إلا على وجه بعيد، في أن الطفل لو بلغ ونفى النسب أنه ينتفي أخذاً من الإسلام والتبعية فيه.
فإذا جرينا على الصحيح، فالنسب ثابت من أحدهما، وقد اختار، وقال القائف خلاف اختياره، وهذا محتمل جداً، وفي أثر عن عمر ما يرشد إلى مسلك في هذه المسألة؛ فإنه أرى الولدَ القائفَ أولاً، فلم يأت القائف بما يرضيه في قصة مشهورة، فأدب القائفَ، ثم قال للمولود: والِ من شئت، وأراد الانتساب.
فيمكن أن يكون ذلك بعد البلوغ. ويظهر أن يكون في الصغر. فإن ابتداء الدّعوة لو كان بعد البلوغ، فلا قائف، كما مهدته فيما تقدم- والعلم عند الله.
وقد تناهى التنبيه، وإنعام النظر موكول إلى نظر الفقيه.
ثم عقد باباً وذكر فيه استلحاق الكافر والعبد وطرفاً من أحكام إسلام الطفل بالتبعية، أما ما يتعلق بالاستلحاق، فقد ذكرناه، وأما أمر التبعية بالإسلام فقد استقصيناه في كتاب اللقيط.

.باب: متاع البيت، يختلف فيه الزوجان:

قال: "وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت... إلى آخره".
12320- إذا كانا يسكنان بيتاً فيه أمتعة، فاختلفا فيها، فاليد في الأمتعة لهما جميعاً، ولا فرق بين أن يكون ذلك المتاع مما يصلح للرجال كالأسلحة والأقبية وملابس الرجال، أو يصلح للنساء كالحلي والمغازل وأوعيتها، فجملتها تحت اليدين، خلافاً لأبي حنيفة.
ولا خلاف أنه إذا تنازع دبّاغ وعطار في جلدٍ وفأرة مسك، فاليد فيهما لهما، ولو تنازع رجلان دابةً: أحدهما ركبها، والآخر متعلق بلجامها، أو تنازعا ثوباً: أحدهما لابسه، والآخر متعلق بذيله، فالمذهب الأصح أن اليد للراكب، واللابس، لاختصاصه التام، وإن كان التعلق باللجام لو انفرد ولا راكب، فالدابة في يد المتعلق باللجام، وقال أبو إسحاق-في الراكب والمتعلق واللابس والمتشبث بالذيل- اليد لهما. وهذا بعيد لا تعويل عليه.

.باب: أخذ الرجل حقه ممن يمنعه:

12321- إذا كان للرجل دين على إنسان وكان من عليه الدين مليئاً وفياً، لم يظهر منه امتناعٌ عن أداء ما عليه، فليس لصاحب الحق أن يأخذ ماله، ولو أخذه، لم يملكه، ولا فرق بين أن يكون من جنس حقه، أو من غير جنس حقه.
وإن كان من عليه الحق مُقراً مليئاً، ولكن كان مماطلاً، فليرفعه إلى القاضي، وليس له مع التمكن من ذلك أن يأخذ مالَه.
وإن امتنع عليه رفْعُه، أو غَيّب عنه وجهَه، وتعذر عليه الوصول إلى حقه، فإذا ظفر، نظر: فإن ظفر بجنس حقه؛ فله أن يأخذه، وإذا قصد أخذه عن حقه ملكه.
فأما إذا ظفر بغير جنس حقه، فهل يأخذه؟ فعلى قولين مشهورين:
أحدهما: أنه لا يأخذه، وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: أنه يأخذه، واستدل الشافعي عليه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف».
ولم يفصل بين أن تظفر بجنس النفقة أو بغير جنسها.
ثم أبو حنيفةَ جوّز أخذ الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم، ونحن نجري القولين في ذلك إذا تحقق اختلاف الجنس.
ولو كان حقه دراهمَ صحيحة، فوجد مكسرة؛ فإن رضي بها أخذها قولاً واحداً.
وإن كان حقه دراهم مكسرة، فوجد دراهم صحيحة، فلا يأخذها بحقه، ولا يتصور اعتياض مع التفاضل، ولا مسلك إلا بيع الدراهم بالدنانير مثلاً، وصرف الدنانير إلى نوع حقه من الدراهم، فإذا كانت صورة المسألة هكذا، فالظافر بالدراهم كالظافر بغير جنس حقه على الأصح؛ فإنه لا يتوصل إلى حقه إلا ببيعتين، فهي أبعد عن ثوب يظفر به. ومن أصحابنا من ألحقه بالظفر بجنس حقه.
وفائدة ذلك القطع بجواز الأخذ، ثم لا طريق إلى التملك، ولا وجه إلا ما ذكرناه.
12322- وإن ظفر بغير جنس حقه وقلنا: له أخذه، فهل يبيعه بنفسه؟ فعلى وجهين: أظهرهما في النقل- أنه لا يبيعه بنفسه، بل يرفعه إلى القاضي ليبيعه، ثم القاضي لا يبيع مُعوِّلاً على قوله، بل يبني الأمر على علمٍ.
ومن أصحابنا من جوّز للظافر أن يبيع بنفسه، على شرط الاحتياط، وهذا لائق بغرض الباب؛ فإنه ربما يعجز عن تقرير الحال في مجلس القضاء؛ فإنه قد لا يجد بينة في إثبات دَيْنه، وإن وجدها، فقد يعجز عن إثبات كون هذه العين ملكاً لمن عليه الدين، وإنما أُثبت التسلُّطُ لصاحب الحق ليصل إلى حقه المتعذر.
ثم إذا قلنا: للظافر أن يبيعه بنفسه، فقد قال الأئمة: يبيعه بنقد البلد-وإن كان حقه بُرّاً أو شعيراً- ثم يصرف نقدَ البلد إلى حقه، ويجري في ذلك مجرى الوكيل بالبيع المطلق. هكذا ذكره القاضي، وفيه إشكال؛ فإن من عليه الحق، إذا تمكن من بيع ثوبه بالبر، فليس له أن يطوّل ببيعه بالدراهم إذا لم يكن له غرض مالي، وأيضاً فإن وجد الدراهم الصحيحة، وحقه المكسرة، يبيع الدراهم الصحيحة بالدنانير، وإن لم تكن الدنانير غالبة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الضرورة تدعو إليه.
وقد ذهب طائفة من محققينا إلى أنه لو أراد البيع بجنس حقه، جاز، وهذا متجه حسن.
ثم إذا أخذ ثوباً عن حقه، فليس له أن يستعمله، وإنما له حق البيع فحسب، ولو تلف في يده، تلف من ضمانه. هكذا قال الأصحاب. وليس كما لو دفع من عليه الحق إلى مستحق الحق ثوباً ليبيعه، ويصرف ثمنه إلى نفسه، فلو تلف في يده، لم يضمنه. والفرق أن مالك الثوب ائتمنه في ذلك الثوب، والآخذ الظافر مستقل بنفسه.
12323- فلو أخذ أكثر من حقه مع إمكان ألا يأخذ لم يجُز. والضمان لا شك فيه.
ولو لم يجد إلا ما يزيد على مقدار حقه، مثل أن يظفر بسيف يسوى مائة، وحقه خمسون، فله أن يأخذه، ولكن هل تدخل الزيادة في ضمانه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: تدخل كالأصل، والثاني: لا تدخل في ضمانه؛ لأنه لم يأخذه لحق نفسه، وله أخذه.
12324- ولو كان لا يتوصل إلى حقه إلا بنقب جدار، فقد قال القاضي: له النقب وإخراج ما يأخذ منه حقه من الحرز، ولا يضمن أرش النقض الحاصل بالنقب؛ فإن من جاز له أن يأخذ شيئاً، جاز له التوصل بالطريق الممكن، ومن استحق شيئاً، استحق الوصول إليه.
12325- ولو أخذ ثوباً قيمتُه عشرة وحقه عشرة، فبقي الثوب في يده، حتى بلغت قيمته عشرين، فتلك الزيادة محسوبة عليه، لا شك فيه، وإن انتقصت قيمة الثوب، نُظر: فإن لم يتوان حتى انتقصت القيمة، لم يُحسب عليه النقصان، وإن توانى في البيع حتى انتقصت القيمة، فالنقصان محسوب عليه. هكذا ذكره القاضي.
ولو غصب عيناً من إنسان، وظفر المغصوب منه بعينٍ للغاصب، والامتناعُ قائم، فله أن يأخذها، فيبيعَها، وينتفعَ بقيمتها، كما لو أبق العبد المغصوب؛ فإن الغاصبَ يغرَم القيمةَ للمغصوب منه، وما ذكرناه مأخوذ من هذا الأصل.
ثم إذا رد الغاصبُ العينَ المغصوبة، فيرد الظافر قيمةَ العين.
فإذاً ظاهر المذهب أن الظافر لا يبيع بنفسه، وبيعُه مخرج عند بعض الأصحاب، قال الصيدلاني: لم يحكه القفال.
12326- ثم من جوّز للظافر أن يبيع، فلو أراد أن يتملك عين ما ظفر به، فالذي ذكره أئمة المذهب أنه لا يتملك، وأبعد بعض الأصحاب فذكر وجهاً أنه يتملك بقدر الحق، وهذا بعيد غير معتد به. ولهذا أخّرته عن تفصيل الباب.
ولو أخذ العين وحبسها، وقصّر في بيعها، حتى نقصت القيمة، فقد ذكرنا أن النقصان محسوب عليه، وهذا فيه إذا باع واستوفى، فأما إذا ردّ العين، فحقه بجُمامه؛ إذ الغاصب لا يضمن نقصان القيمة عند رد العين، فما الظن بما نحن فيه؟
12327- ولو كان لإنسان على إنسان دين، وعليه لذلك الشخص دين، فالقول في ذلك يتعلق بالتقاصّ، وكان شيخي يستقصيه في كتاب الكتابة، ونحن نتيمن بالجريان على ترتيبه إن شاء الله، والقدر الذي يليق بهذا الموضع أن من عليه حقه لو جحده، وقلنا: لا تقاصّ إلا بالرضا، فهل له أن يجحد ما عليه؟ فعلى وجهين: على قولنا لو ظفر بغير جنس حقه، لأخذه، ولعل القياس أن له أن يجحده. والعلم عند الله تعالى.
فصل:
وجدنا في مجموع القاضي في الدعوى وأدب القضاء مسائلَ تتعلق بالمراسم، وليست عريةً عن الفقه، فرأيتُ إثباتَها مسائلَ.
مسألة 12328- إذا دفع رجل إلى آخرَ عشرةَ أمناء فَيْلَج ليطبخه، ويضرِب منها الإبريسم، فإذا طُبخ، رجع إلى خمسة أمناء، والإبريسم منه مَنْ، فجحد المدفوع إليه، ولم يدر المدعي أن الفيلج على الهيئة الأولى باقية، فيدعيها عشرةَ أمناء، أم هي مطبوخة، فيدعيها خمسةَ أمناء، أم حصل الإبريسم مناً، أو تلف في يده، فيغرم القيمة، وسببُ الضمان لم يثبت إلا عند الجحود، والتفريع على أن لا ضمان على الأجير المشترك.
فإن وصف المدعي الحالَ ونوعّ الدعوى، فقال: عليك عشرة من كذا، أو خمسةٌ من كذا، أو منٌّ مِنْ كذا، أو القيمةُ إن أتلفت، فهل تقبل الدعوة مميّلة على هذه الصيغة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قبلها، وحلّف المدعى عليه على جميعها، قال القاضي: اصطلح القضاة على سماع هذه الدعوى. فمن أصحابنا من قال: لا تسمع الدعوى متميلة، ولكن ينبغي أن تفرد هذه الدعاوي ويحلَّف المدعى عليه على آحادها. وهذا جارٍ على القياس، ولكن فيه إشكال، وهو أن المدعى عليه لو نَكل عن اليمين، فلا يتأتى للمدعي الإقدامُ على يمين الرد؛ لأنه إذا ادعى عشرة أمناء فَيْلَج، فكيف يحلف؟ وربما طبخه، أو ضربه إبريسم، والذي يدل عليه كلام القاضي أن للمدعي أن يعتمد نكولَه، فيحلف ويستند إلى نكوله، وهذا حسن. وهو كما لو ادعى المودَع تلفَ الوديعة، وحلَّفناه، فنكل، فللمودِع أن يحلف تعويلاً على نكول المودَع. وهذا أصل ضابط.
فنقول: إن كان المردود عليه عالماً بما يحلف عليه، مثل أن ينكُل المودَع عن اليمين على الرد، وعلم المودِع أنه لم يرد، فيحلف يمين الرد، وإن ادعى التلف ولم يقطع المودع بالتلف، فهل له أن يعتمد نكولَه ويحلف، كما يعتمد الوارث خطَّ أبيه المعتمد في الروزنامج، ويحلف؟ فعلى وجهين- وهذه المسألة خارجة على ذلك. وقد مضى لهذا نظير في دعوى العين على الضامن أو القيمة.
ويلتحق بهذا أنه إذا دفع ثوباً إلى دلال ليبيع الثوبَ بعشرة دراهم؛ وجحد الدلال الثوبَ، فصاحب الثوب يدعي الثوب، أو الثمن، أو القيمة؟ فهو على ما ذكرناه.
مسألة 12329- إذا ادعى عشرة دنانير على إنسان، فقال المدعى عليه: لا تلزمني العشرة، قال؛ ليس للقاضي أن يقول: لا تلزمك العشرة، ولا شيء منها. ولو قال ذلك، كان فضولاً؛ فإن إنكاره انطبق على مضادة الدعوى، فإن المدعي أثبت في دعواه عشرة، والمدعى عليه أنكر العشرة، ثم قال القاضي: إذا آل الأمر إلى تحليفه، حلّفه لا تلزمه العشرة ولا شيء منها.
وهذا الذي ذكره في التحليف مستقيم، والذي ذكره أولاً من الاكتفاء بإنكاره عشرة وهمٌ عظيم، وما بناه عليه من انطباق الجحود على مضادة الدعوة فزللٌ بيّن؛ فإن من ادعى عشرة، فقد ادعى استحقاق أجزاء العشرة ذرة ذرة، وإذا قال المدعى عليه: لا تلزمني العشرة، فمن الممكن أن العشرة لا تلزمه، وتلزمه العشرة إلا حبة، فنَفْي العدد ليس نفيا لآحادها، وليس ما ذكرناه تأويلاً، بل القول متردد فيما دون العشرة، وليس فيما دون العشرة ذكر في إنكاره، وهي مثبتة في الدعوى، فالإنكار ليس بتامٍّ، فكأنه لم ينكر إلا أقل جزء من العشرة، فإذا لم يتم الإنكار، فلا نأخذ في التحليف؛ فإن امتنع عن المزيد على هذا القدر، فهو في حكم الساكت عما دونه، وقد مضى تفصيلُ السكوت وتقديرُه إنكاراً ثم نكولاً، هذا هو الذي لا يجوز غيره.
والظن بالقاضي أنه لا يخالف فيما ذكرناه. وإنما صوّبى المسألة في اقتصاره على نفي العشرة، وامتناعه عن ذكر ما دونها، فإن حلّفناه لا تلزمه العشرة، ولا شيء منها، فإن نكل، رددنا اليمين على المدعي، فيحلف ويستحق، وإن حلف المدعى عليه، انتهت الخصومة في هذا الفن.
فإن حلف لا تلزمه عشرة، وامتنع عن الحلف على نفي ما دون العشرة، فيحلف المدعي على ما يقل عن العشرة بأقل القليل؛ فإنه نكل عما دون العشرة، والعشرة إلا حبة دون العشرة، وهذا في نهاية اللطف.
فإن قال قائل: من يلزمه دينار، فقوله: لا تلزمني العشرة سديد، ومن تلزمه تسعة، فقوله لا تلزمني العشرة سديد، فلم جعلتموه ناكلاً عن عشرة إلا أقلَّ القليل؟ قلنا: لأنه امتنع عن الحلف عن كل ما دون العشرة.
مسألة 12330- إذا ادعى داراً في يد رجل، وقال: إنها ملكي وأنت مبطل في استيلائك، وعليك ردُّها على، فقال المدعَى عليه: لا يلزمني تسليم هذه الدار إليك، فأقام المدعي بيّنة أن الدار ملكُه، ولم تتعرض البينة لأكثر من إثبات الملك للمدعي.
قال القاضي: يثبت الملك ويكفي ثبوته. ويقال للمدعى عليه: إن أثبتّ استحقاقاً من إيجار، أو ارتهان، فادّع، وأثبت. وإلا فحكم الملك استبداد المالك باسترداد الملك من يدك.
وهذا فيه للنظر مجال؛ فإن البينة لم تشهد إلا على الملك، والملك لا ينافي استحقاقَ يد المدعى عليه، فلم تقم البينة على وجه يوجب إزالةَ يده.
وهذا عندي يقرب مأخذه من أن المالك وصاحب اليد إذا تنازعا في الإعارة والإجارة، فالقول قول منْ؟ وهذا قدمته في موضعه مفصلاً، فإن جعلنا القول قولَ المالك، فيكفي ثبوت الملك هاهنا، ثم باب الدعوى مفتوح لصاحب اليد، والقول قول المالك، وإن جعلنا القول قولَ صاحب اليد، فلا تُزال يده ما لم تتعرض البينة لكون صاحب اليد مبطلاً.
مسألة 12331- أجرى القاضي في أثناء الكلام شيئاً مستفاداً، قد يتوقف الناظر في ابتدائه، ولا تعلق له بالدعاوي والأقضية، قال: إذا غصب رجل أُمَّ ولدٍ، فهي مضمونة باليد عندنا، وهذا سديد، لا إشكالَ فيه على المذهب، فلو أَبِقت من يد الغاصب؛ غَرِم الغاصب القيمةَ.
فإذا غرمها، ثم مات السيد المغصوب منه، عَتَقَت المستولدة، ووجب ردُّ قيمتها من تركة المولى؛ لأن الرق صار مستهلكاً بحكم الموت عليه.
وكذلك إذا غصب عبداً فأبق، وغرم القيمةَ، ثم إن المغصوب منه أعتق العبد في إباقه، فيلزمه ردُّ القيمة، لأنه بإعتاقه إياه، صار في حكم المسترِدّ له.
وإن قطع جانٍ يدَ أمِّ الولد، وغرم الأرش، ثم مات السيد، وعَتَقَت المستولدة، فلا يُرد الأرش على الجاني، لأنه بدل الطرف الفائت. والعتق لا ينعكس عليه.
مسألة: 12332- إذا ادعت امرأة على رجل، وقالت: تزوجتني بخمسين ديناراً، فاعترف الزوج بالنكاح، ولكنه قال: ما قبلتُ نكاحَك بخمسين، فإنكاره منطبق على مضادة دعواها.
والوجه أن نذكر غائلة المسألة وإشكالَها، ثم نخوض في الجواب عنها. فنقول: إذا أنكر الزوج، وحلف، فكأنه شبَّبَ بأن المهر أقلُّ من الخمسين، ولكنه لم يذكر المقدار، والمرأة إذا اعتقدت أن الزوج قبل الخمسين لو نزلت عن ذلك، كانت كاذبة، فأين الوقوف، وكيف السبيل، وليس للمهر أقل حتى ننتهي إليه ونثبته على قطع، ونرد الخصام إلى الزائد؟
وليس هذا كما لو ادعى رجل على رجل عشرة، ولم يذكر أنها ثمن عبد، فإذا حلف المدعى عليه على نفي العشرة، ولم ينف ما دونها، فالمدعي يمكنه أن يحلف على ما دونها؛ فإن الدعوى المرسلة تقبل التبعيض، والمرأة في مسألتنا ادعت قبولاً في الخمسين، فلو ذكرت ما دون الخمسين، فيكون هذا منها دعوى عقد آخر، فإن تفطّنت لهذا، وادعت خمسين ديناراً من غير أن تنسبها إلى قبولٍ في عقد، فهذا هو الذي قدمناه في ادعاء العشرة وإنكارها.
وإن ربطت دعواها بالقبول كما ذكرنا، فقد قال القاضي: الوجه أن يفرض القاضي لها مهرَ مثلها، ويقدّر كأنها مفوِّضةٌ؛ فإن الزوج إذا امتنع عن ذكر مسمى، فليس بين النكاح المشتمل على المسمى، وبين التفويض رتبة، ولا يمكننا أن نُلزم الزوجَ ذكرَ مسمّى من غير طلب من المرأة، وتعريةُ النكاح عن المهر لا سبيل إليه، ولا وجه لإثبات الأقل؛ فإنه لا ضبط له، فيفرض القاضي لها مهرَ مثلها، وهذا إذا كان مهرُ مثلها خمسين أو أقلَّ منه، فإن كان كثر، فليس لها إلا الخمسون.
وهذا لا يليق مثله بقياس مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإنه لا يركب إلا متن جادّة الشريعة ولا يميل مثل هذا الميل.
فإن قيل: ما الوجه؟ قلنا: أولاً، ليس يعظم تعطل حق إذا لم تقم عليه حجة، ومعظم الحقوق المجحودة بهذه المثابة، فطريقها أن تدعي خمسين ديناراً من جهة المهر، إن أرادت أن تذكر الجهةَ من غير أن تضيف الخمسين إلى القبول، ومن غير أن تذكر أنها كلُّ المسمى. فإن حلف الزوج: لا يلزمه الخمسون، ونكل عن الحلف على نفي ما دون الخمسين، حلفت المرأة واستحقت الخمسين إلا أقلَّ القليل.
والمشكل في المسألة أن الزوج لو أراد أن يحلف على نفي الخمسين وكل جزء منه، فلا يتصور هذا إلا بتقدير البراءة أو الأداء، فلا يقبل قوله حينئذٍ، وليس كما لو ادعى رجل ديناً مطلقاً، فقال المدعى عليه: لا يلزمني، فإن هذا كما يحتمل البراءة يحتمل نفي أصل الدين، ونفيُ أصل الدين ممكن، ونفي أصل المهر لا يمكن، إلا على مذهب التفويض. فإذا حلف على نفي المهر، تعيّن التفويض، فيفرض القاضي لها مهر المثل-لا وجه غيره- فيحصل به إثبات المهر، والجريان على موجب يمين الزوج.
هذا منتهى القول. وهو الذي عناه القاضي، ولكن لابد من إجراء المسألة إلى هذا الحد، ولا يجوز ابتدار الفرض بقوله: ما قبلت بخمسين، ويجوز أن يقال: القول قول الزوج في أن لا مسمى؛ فإن الأصلَ عدمُ التسمية، ثم الشرع يحكم بما يرى في النكاح الخالي عن المهر ذكراً.
مسألة: 12333- إذا صححنا كفالة البدن، فطلب المدعي من المدعى عليه كفيلاً قبل أن يقيم البينة، وذكر أني أبغي كفيلاً إلى أن أشمِّر لإقامة البينة، وأجمع الشهودَ، فقد جرى رسم القضاة بحمل المدعى عليه على إعطاء الكفيل، وهذا غير واجب باتفاق الأصحاب؛ فإنه لم يَثْبت للمدعي بعدُ حقٌ.
وإن أقام بينة على دين في ذمة المدعى عليه، ولم يُعدَّل شهودُه، فقد قال القاضي: له طلب الكفيل هاهنا؛ فإن حبسه قبل التعديل لأداء الدين محال؛ فإن الحبس عذاب، وتخليته-وقد يغيّب وجهه- لا وجه له، فتكليفه بذلُ كفيلٍ يضاهي إخراجنا العين المدعاة من يده إن كانت الدعوى في عين، فإن أعطى الكفيل، فذاك، وإلا حبسناه لمنع الكفيل، لا لمنع الدين.
فإن قيل: البينة قبل التعديل كما لا توجب الدين، يجب أن لا توجب الكفيل.
قلنا: البينة لا توجب الكفيل، ولكن الحالة توجب الكفيل.
مسألة: 12334- إذا ادعى قصاصاً على عبد، استحضره، وادعى عليه، ولا تعلق للدعوى بالمولى.
وإن ادعى أرش جناية، قال القاضي: يستحضر المولى؛ فإن الخصومة مالية؛ وحق المال في العبد للمولى.
ولو أراد استحضار العبد على قولنا: له ذمة في الجناية، فله ذلك.
ولو قُبِل الدعوى، تعلّق بالعبد- إن قلنا للعبد في الجناية ذمة.
ثم إن جعلنا يمين الرد إقراراً، لم يتعلق برقبته شيء لو نكل عن اليمين، وحلف المدعي، وإن جعلنا يمين الرد بمثابة البينة، فيثبت الأرش في ذمته، ولا يتعلق برقبته، على ظاهر المذهب، وفيه الوجه البعيد أنه يتعلق برقبته، وإن اقتضى ذلك حكماً على ثالث، فهذا احتمالٌ على بُعْد، ولا تعويلَ عليه؛ فإن توجيه الدعوى على السيد ممكن، وذلك الوجه البعيد إنما يجري إذا عسُر توجيه الدعوى على الثالث.
مسألة: 12335- ذكر في أثناء الكلام أن من أخذ فأساً مسبَّلاً على المسلمين، فتلف في يده من غير تقصير، فلا ضمان عليه، فإنه بمثابة الموصى له بالمنفعة، إذا تلفت العين في يده.
وكذلك لو وضع دِنّاً على باب داره، وسبّل، ورتب كيزاناً، وسبّلها، فتلف كوزٌ في يد شارب من غير تقصير، فالأمر على ما رسمناه في نفي الضمان.
كتاب العتق